Sunday, December 6, 2009

كرة القدم تنفجر و تفجر

في مشهد مخيف وجوٍّ عنيف، صخب ولغط و مشادات، وحجار قاذفات، وسباب واعتداءات، مع تجييش للطاقات وإهدار للأموال والأوقات، استدعاء سفراء وإغلاق سفارات وتهديدات وإنذارات، حرب ضروس قد أُعلنت ورُفعت لها الرايات، وانبرت لها الإذاعات، وهُيّئت لها الشاشات، وأعد المشجعون لها الطبول والمزامير والهتافات، والأحجار والسكاكين والهراوات، وغيرها من البذاءات شاهدها الجميع بتلك المباراة.

وما أن تنجلي المعركة الحامية عن هزيمة أحد الفريقين حتى ينتقل ميدان المعركة من ساحة الملعب ليكون ميدانها في الشوارع و البيوت والمدارس والدواوين، ومكاتب الموظفين وفي المقاهي والصوالين، وتنتهي المعركة أخيراً عن سقوط ضحايا من الجانبين، وما أن تهدأ حدتها وتنجلي غمرتها حتى تبدأ معركة أخرى بمباراة ثانية......... وهلم جراً.

إن العاقل ليتعجب بل ويأسف أن تصل حال الأمة إلى هذا الحد أن تتحكم فينا كرة قدم (جلدة منفوخة) لتخلق العداء والشحناء بين شعبين مسلمين، وإن عجبت فعجبك من الإعلام المبجل في كلا البلدين؛ فهو المسؤول الأول عما حدث بين الشعبين المصري والجزائري؛ إذ دأب قبل المباراة بأيام على تصوّر المباراة وكأنها معركة حاسمة، بل وكأنها أم المعارك التي يجب أن يصطف فيها الجميع صفاً واحداً، ويستبسلوا فيها ضد العدوان المزعوم إن هم كانوا يحبون بلدهم حقاً، هذا هو الإعلام الهزيل الذي يغفل عن قضايا الأمة الأساسية ومشكلات الشعوب، ويهتم بالثانويات والتفاهات.

هكذا يكون الإعلام السلبي، إعلام معظم مواده لتفريق الأمة، وإشغالها بالتوافه، وصدّها عن الحق والمنطق والعقل، و قديماً قالوا: الناس على دين ملوكهم، واليوم بإمكاننا أن نقول: "إن الناس على دين إعلامهم".

أن نتفاعل مع أشياء ثانوية، ونتعصب لها، وهي في خانة الترفيه أكثر من كونها جدية، وبدعوى الوطنية والحب للأوطان- لهو خطأ فاحش، أين الوطنية منك؟ عندما تتغافل عن قضايا كبيرة تهمك أنت أيها المواطن المسكين، وتهم موطنك وأمتك، ثم تتفاعل مع مباراة لن تقدم ولن تؤخر، ولو أخذت كأس العالم -فرضاً- وهو بعيد عنك، فلن يتغير من حالك شيء وكيف نسميه نصراً؟! اختزلنا هذا المعنى العظيم في فوز وهمي، فوالله إن المستفيد الوحيد من هذا كله لهو عدونا بل، وقد يكون له يد في ما حدث، ويتمنى أن يتكرر ذلك في كل البلاد العربية.

إن الأمة عندما تعتني بالتوافه على حساب الجد، وعندما تركز على التحسينات على حساب الضروريات، فهي أمة لا تستحق النصر، فأمتنا اليوم في وضع لا تُحسد عليه، ليس لديها وقت لأن ترفل وتلعب وتنفق الملايين من الدولارات على شأن تلك الخزعبلات، والمصيبة أن نتعصب تعصباً أعمى لهذا أو لذاك الفريق؛ فالتعصب لشيء ما مقيت ومذموم حتى وإن كان هذا الشيء صحيحاً وشيئاً ذا فائدة، فما بالك أن نتعصب على كرة قدم مجرد رياضة للرفاهية، لكننا جعلناها للتفرقة والبغضاء.

إن ما جرى في مصر والجزائر لهو حقاً شيء مخجل، الآلاف يتوافدون على شأن التشجيع والتعصب، وخمسة عشر ألف من القوات السودانية لضبط أولئك المشجعين.. أين العقل والحكمة؟! جسر جوي أقامه كلا البلدين لنقل المشجعين، ماذا لو كان هذا الجسر لنقل معونات لأطفال غزة الذين يبيتون في العراء، وينتظرون لقمة العيش؟! إنها لمفارقات عجيبة بل واستخدمت الطائرات الحربية لنقل المشجعين، يالله عندما تسطر السذاجة من علية القوم، ماذا لو تحركت تلك الطائرات كما يجب أن تتحرك لدفع عدو استباح مقدسات وانتهك حرمات، لكنه كما قيل قديما "سيف في يد عجوز"!!

فمنذ اللحظة الأولى التي شرع فيها المتقاتلون (أقصد الغوغاء من الجانبين) يتوعدون بعضهم البعض كان الخلل في اهتمامات الأمة وأولوياتها واضحاً؛ فالأمة التي لم تحرك ساكناً إلاّ ما ندر عندما اقتحم اليهود المسجد الأقصى ها هي ذي تتقاتل على مباراة لكرة القدم..!!

الأمة التي يرتع على ترابها المحتل الأجنبي من مشرقها إلى مغربها يشحذ الأشقاء فيها الهمم للتقاتل على الكرة، من أجل الوصول لمونديال كأس العالم، هذا الخلل كافٍ لأن يتحرك له عقلاء الأمة فيتداركوا ما يجري بين أبنائها.. هناك قضايا تكاد تعصف بمستقبل الأجيال هي أحوج لهذه الطاقات: ثغور محتلة، وعدو متربص، واستبداد جاثم على الصدور، وحرمات منتهكة!!

وفي تطور خطير للقضية ومدى سذاجة المسؤولين في البلدين، تم استدعاء السفراء في كلا البلدين، ومظاهر الاحتجاج في البلد الخاسر، ومظاهر الاحتفال والفرح في البلد الفائز، بل وهناك أنباء عن سقوط قتلى نتيجة لهذه الاحتفالات، فيا لله ما بال أمتنا؟! ما هذا الانحطاط في القيم والأخلاق يا أمة القيم؟!! ما هذه الأزمة الأخلاقية بل والعقلية التي نشهدها؟! بالله عليكم لو كانت هذه التعبئة الإعلامية لنصرة الأقصى والتبرع له ولفك الحصار عن شيوخ وأطفال ونساء غزة الذين يعانون الأمرين أما كانت أجدر وأحرى؟!! أي تخلف هذا، وأي غباء ولاؤنا وعداؤنا تتحكم فيه كرة قدم؟!

وقائل يقول: إن السياسة دخلت في الرياضة فأفسدتها، فلا بارك الله في السياسة عندما تكون لمصالح شخصية لحاكم أو مسؤول لتلهي الشعب عن فساد نظامه والعبث بمقدرات الأمة، وما أبشع السياسة التي تفرق الأمة، وما أقبح السياسة التي تأتمر بأوامر العدو، وما أبشع السياسة عندما تكبر الصغائر وتصغر الكبائر، لا نعجب من حكامنا أن تسلطوا علينا؛ فقد يكون ذلك بذنوبنا، والتغيير يأتي أولاً من القاعدة قال الله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

إن كرة القدم أصبحت وسيلة لتفريق الأمة، وإشاعة العداوة والبغضاء بين أفرادها، حيث أوجدت التعصب المقيت للفرق الرياضية المختلفة فهذا يشجع فريقا وذاك يشجع فريقاً آخر، بل وصل الأمر إلى البيت الواحد ينقسمون على أنفسهم.. هذا يتبع فريقاً وذاك يتبع فريقاً آخر، ولم يقف الأمر عند حد التشجيع بل تعداه إلى سخرية أتباع الفريق المنتصرين من أتباع المنهزمين، وفي نهاية المطاف يكون هناك الشجار والعراك الذي يدور بين مشجعي الفريقين، وسقوط الجرحى والقتلى بالمئات من ضحايا كرة القدم.

الأصل في حث الإسلام على الرياضة هو أن يباشرها المسلم بنفسه أو مع غيره لتحصل له القوة المطلوبة، أما كرة القدم الآن فإن أهم عنصر مقصود فيها هم المشاهدون المشجعون الذين يصل عددهم إلى مئات الألوف وأكثر، ولا يستفيدون من كرة القدم شيئاً، فقل لي بربك: ماذا استفادت هذه الأعداد من حضور المباراة؟! وكم خسرت من هدر الأوقات والطاقات؟! فضلاً عن الشرور التي تصيب بعضهم، وقد تصل إلى الممات إثر نوبات القلب و الانتحارات!! أما ما يعتاده كثير من المشاهدين من بذاءة الألسن، ووقاحة العبارات، وتخاطب بالفحش ورديء الكلام، وقذف ولعن لبعضهم وللحكام، فهذا مما يُعدّ من الحرام.

ثم إن مسابقات كرة القدم أصبحت وسيلة لقلب الموازين؛ إذ أصبح البطل محرز النصر في هذا الزمان هو لاعب الكرة، لا المجاهد المدافع عن كرامة الأمة وعزتها، أو الداعية الذي يعلم الناس الخير، أو المبدعين كلاً في مجاله؛ من فكر وطب وهندسة وغيرها، بالإضافة إلى بذل الأموال الضخمة للاعبين، و الإسلام لا يقرّ قلب الموازين، بل يعرف لكل إنسان قيمته بلا إفراط ولا تفريط.

وختاماً نقول: إن الأمة عندما تتشاغل بالتوافه على حساب الجد، ويتحكم فيها من ليس أهلاً لذلك، لهو شر خطير على الأمة، وضياع لحقوقها، لا يزول حتى ترجع إلى جادة الصواب، وتضع كل شيء في موضعه


من جروب الوعي العربي

No comments: